فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونحن نقول: بموجبه لكن لم قلتم: إنه لا ينجس شرعًا؟ سلمنا أن المراد هو الخبث الشرعي لكن لم لا يجوز أن يكون معنى قوله «لم يحمل خبثًا» أنه يضعف عن حمله أي يتأثر به؟ أجاب بعض الشافعية عن هذه المنوع بأن كثيرًا من المحدثين عينوا اسم الراوي في حديث القلتين، فإن يحيى بن معين قال: إنه جيد الإسناد. فقيل له: إن ابن علية وقفه على ابن عمر. فقال: إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه. وقوله القلة مجهولة غير مسلم لأن ابن جريج قال في روايته: بقلال هجر.
ثم قال: وقد شاهدت قلال هجر وكانت القلة تسع قربتين وشيئًا. وإذا كانت هذه الرواية معتبرة فقط لم يكن في متن الحديث اضطراب، وحمل الخبث على الشرعي أولى لأن المسألة شرعية وتفسير عدم حمل الخبث بالتأثر تعسف لأنه صح في بعض الروايات «إذا كان الماء قلتين لم ينجس» ولأنه لا يبقى لذكر القلتين حينئذ فائدة لأن ما دون القلتين ايضًا بتلك المثابة، وزيف بأنه بعد التصحيح يوجب تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر المجمل. حجة من حكم بنجاسة الماء الذي خالطه نجاسة كيف كانت قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] وقوله: {إنما حرم عليكم الميتة والدم} [النحل: 115] وقال في الخمر {رجس من عمل الشيطان} [المائدة: 90] حرم هذه الشياء مطلقًا ولم يفرق بين حال انفرادها وحال اختلاطها بالماء، فوجب تحريم استعمال كل ماء تيقنا فيه جزءًا من النجاسة. وأيضًا الدلائل التي ذكرتموها مبيحة ودلائلنا حاظرة والحاظر غالب على المبيح بدليل أن الجارية المشتركة لا يحل لواحد منهما وطؤها وأيضًا قال صلى الله عليه وسلم «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة» أطلق من غير فرق بين القليل والكثير. أجاب مالك أنه لا نزاع في تحريم استعمال النجاسات، لكن الكلام في أنه متى ما لم يتغير فليس للنجاسة أثر لأنها انقلبت عن صفتها فكأنها معدومة والنهي عن البول في الماء لتنفر الطبع أو للتنزيه لا للتحريم.
واعلم أنه سبحانه بين في سورة الأنفال أن من غاية إنزال الماء من السماء تطهير المكلفين به حين قال: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} [الأنفال: 11] ففي وصفه هاهنا بكونه طهورًا إشارة إلى ذلك. ثم رتب على الإنزال غايتين أخريين. أولاهما تتعلق بالنبات، والثانية بالحيوان الأعجم فالناطق. وفي هذا الترتيب تنبيه على أن الكائنات تبتدئ في الرجوع من الأخس إلى الأشرف، وفيه أن الغرض من الكل هو نوع الإنسان مع أن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم. قال: {ميتًا} مع قوله: {بلدة} بالتأنيث لأن فيعلًا غير جارٍ على الفعل فكأنه اسم جامد وصف به، أو بتأويل البلد والمكان. والأناسيّ جمع أنسي أو جمع إنسان على أن اصله أناسين فقلبت النون ياء. وفعيل قد يستوي فيه الواحد والجمع فلهذا لم يقل وأناسي كثيرين ومثله {وقرونًا بين ذلك كثيرًا}. اسئلة أوردها جار الله مع أجوبتها: الأول: أن إنزال الماء موصوفًا بالطهارة وتعليله بالإحياء ولاسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة الإحياء والسقي كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد به الوحش. الجواب لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكرامًا لهم وتتميمًا للمنة عليهم وغشارة إلى أن من حق استعمال الماء في الباطن والظاهر أن يكون طاهرًا غير مخالط لشيء من القاذورات.
قلت: قد قررنا فائدة هذا الوصف بوجه آخر آنفًا. السؤال الثاني: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان المنتفع بالماء؟ الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب لاماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، ولأنها قنية الإنسان وعامة منافعه متعلقة بها فسقيها إنعام عليه. الثالث: ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهم بالكثرة؟ الجواب لأن بعض الأنعام والأناسي الذين هم بقرب الأودية والأنهار العظام لا يحتاجون إلى ماء السماء احتياجًا بينًا، ولمثل هذا نكر البلدة في قوله: {بلدة ميتًا} قوله سبحانه: {ولقد صرفناه} الأكثرون على أن الضمير عائد إلى ما ذكر من الدلائل أي كررنا أحوال الإظلال وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها. وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتباينة من وابل وطل وغير ذلك فأبوا إلا كفورًا وأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا استقلالًا. فإن جعلوا الأنواء كالوسائط والأمارات فلا بأس. والنوء سقوط نجم من المنازل الثمانية والعشرين للقمر في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه وهو نجم آخر في المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يومًا وهو أكثر، أو إلى أربعة عشر وهو أقل. والعرب تضيف الأمطار والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع. فإذا مضت مدة النوء ولم يحدث شيء من مطر وغيره يقال: خوى نجم كذا أي سقط ولم يكن عنده اثر علوي؟ عن ابن عباس: ما من عام أقل مطرًا من عام ولكن الله عز وجل قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية. ويؤيد هذا التفسير تنكير البلدة والأنعام والأناسي. قال الجبائي: في قوله: {ليذكروا} دليل على أنه تعالى أراد من الكل التذكر والإيمان. وفي قوله: {فأبى أكثر الناس} دلالة على أن المكلف له قدرة على الفعل والترك إذ لا يقال للزمن مثلًا إنه أن يسعى. وقال الكعبي: الضمير في {بينهم} لكل الناس فيكون الأكثر داخلا في ذلك العام إذ لا يجوز أن يقال: أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفورًا. وعند هذا يظهر أنه أراد من جميع المكلفين أن يؤمنوا ويعتبروا ومعارضة الأشاعرة معلومة. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

الشبهة الرابعة: لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافون البعث، قال الفراء: الرجاء بمعنى الخوف لغة تهامة، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقارًا}. أي: لا تخافون لله عظمة {لولا} أي: هلا ولم لا {أنزل} أي: على أي وجه كان من أي منزل كان {علينا الملائكة} كما نزلت عليه فيما يزعم وكانوا رسلًا إلينا، أو فتخبرنا بصدقه {أو نرى ربنا} بما له علينا من الإحسان، وبما لنا نحن من العظمة بالقوة بالأموال وغيرها، فيأمرنا بما يريد من غير حاجة إلى واسطة؛ قال الله ردًّا عليهم: {لقد استكبروا} أي: تعظموا {في} شأن {أنفسهم} أي: أظهروا الاستكبار عن الحق، وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال تعالى: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه}.
{وعتوا} أي: تجاوزوا الحد في الظلم {عتوًا كبيرًا} أي: بالغًا أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات الظاهرة، فأعرضوا عنها واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية، واللام جواب قسم محذوف، وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترى أن المعنى ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوهم؟ ثم بين تعالى لهم حالهم عند بعض ما طلبوا بقوله تعالى: {يوم يرون الملائكة} أي: يوم القيامة، وقال ابن عباس: عند الموت {لا بشرى} أي: من البشر أصلًا {يومئذٍ} وقوله تعالى: {للمجرمين} أي: الكافرين إما ظاهر في موضع ضمير، وإما؛ لأنه عام فقد تناولهم بعمومه بخلاف المؤمنين فلهم البشرى بالجنة.
تنبيه في نصب يوم:
في نصب يوم أوجه:
أحدها: أنه منصوب بإضمار فعل يدل عليه قوله تعالى: {لا بشرى} أي: يمنعون البشرى يوم يرون، الثاني: باذكر فيكون مفعولًا به. الثالث: بيعذبون مقدرًا ولا يجوز أن يعمل فيه نفس البشرى لوجهين: أحدهما: أنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله، والثاني: أنها منفية بلا، وما بعد لا لا يعمل فيما قبلها. وقوله: {ويقولون} أي: في ذلك الوقت {حجرًا محجورًا} عطف على المدلول ويقول الكفرة لهم حينئذٍ: هذه الكلمة استعاذة وطلبًا من الله تعالى أن يمنع لقاء الملائكة عنهم مع أنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم؛ لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو والشدة النازلة أو نحو ذلك: حجرًا محجورًا يضعونها موضع الاستعاذة، فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة. قال سيبويه: يقول الرجل للرجل: تفعل كذا وكذا فيقول: حجرًا، وهي من حجره إذا منعه؛ لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه عنه فلا يلحقه، وكأن المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعًا ويحجره حجرًا، وقال ابن عباس: تقول الملائكة: حرامًا محرمًا أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وقيل: إذا خرج الكفار من قبورهم تقول الملائكة لهم: حرام محرم عليكم أن تكون لكم البشرى، ولما كان المريد لإبطال شيء لشدة كراهته له لا يقنع في إبطاله بغيره بل يأتيه بنفسه فيبطله، عبر تعالى بقوله: {وقدمنا} أي: وعمدنا بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة في ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة سواء كان في الدنيا أم في الآخرة {إلى ما عملوا من عمل} أي: من مكارم الأخلاق من الجود وصلة الرحم وإغاثة الملهوف ونحو ذلك {فجعلناه} لكونه لم يؤسس على الإيمان، وإنما هو للهوى والشيطان {هباءً} وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من كوّة مما يشبه الغبار {منثورًا} أي: مفرقًا أي: مثله في عدم النفع إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه ويجازون عليه في الدنيا، فتكون النار مستقرهم ومقيلهم، ولهذا بين حال أضدادهم وهم المؤمنون بقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذٍ} أي: يوم إذ يرون الملائكة {خير مستقرًا} من الكفار {وأحسن مقيلًا} منهم، والمستقر المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرين يتجالسون ويتحادثون، والمقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وملامستهن كما أن المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب، روي: أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار؛ قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وقال ابن عباس في هذه الآية: الحساب في ذلك اليوم في أوله، وقال: يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس.
تنبيه: في أفعل:
- في أفعل قولان: أحدهما: أنها على بابها من التفضيل، والمعنى: أن المؤمنين خير في الآخرة مستقرًا من مستقر الكفار، وأحسن مقيلًا من مقيلهم ولو فرض أن يكون لهم ذلك أو على أنهم خير في الآخرة منهم في الدنيا.
والثاني: أن يكون لمجرد الوصف من غير مفاضلة ومن ذلك المعنى قوله تعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون}.
ذكروا في تفسير الشغل افتضاض الأبكار، وإنما سمي مكان دعتهم واسترواحهم الحور مقيلًا مع أنه لا نوم في الجنة على طريق التشبيه. ثم عطف تعالى على قوله تعالى يوم يرون قوله تعالى: {ويوم تشقق السماء} أي: كل سماء {بالغمام} أي: كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها، وهو غيم أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم.
تنبيه في الباء:
في هذه الباء ثلاثة أوجه: أحدها: أنها سببية، أي: بسبب الغمام يعني سبب طلوعه منها، ونحوه {السماء منفطر به}.
كأنه الذي تتشقق به السماء، الثاني: أنها للحال أي: ملتبسة بالغمام، الثالث: أنها بمعنى عن أي: عن الغمام كقوله تعالى: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعًا} والباء وعن يتعاقبان تقول: رميت عن القوس، وبالقوس، وقرأ أبو عمرو والكوفيون بتخفيف الشين، والباقون بتشديدها، ثم أشار تعالى إلى جهل من طلب نزول الملائكة دفعة واحدة بقوله تعالى: {ونزل الملائكة} أي: بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه بأمر من الأمور وغيره من الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد {تنزيلًا} أي في أيديهم صحائف الأعمال؛ قال ابن عباس: تتشقق السماء الدنيا، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها، وهم أكثر من أهل سماء الدنيا وأهل الأرض جنًا وإنسًا، ثم كذلك حتى تتشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يدورون على السماء التي قبلها، ثم تنزل الكروبيون ثم حملة العرش.